يقف الرجل السبعيني أمامنا، نحن مجموعة موظفين في دورة تدريبية، وهو المدرب، الرجل لا يعرف ماذا يجب أن يقول، لكنه يقول كل ما يمكنه، كل ما يعرفه. يجب أن يحصل على رضانا عن الدورة، فهي مصدر دخله، يتصبب عرقاً رغم البرد. يشرح المشروح ويعيد شرحه، يحدثنا عن أبنائه الناجحين في الخارج، يتشبث بهذه المعلومة كنقطة قوة تحتسب له، رجل كبير في السن، ربما انتهت خدماته في قطاع العمل منذ سنين، وفي الوقت الذي عليه أن يرتاح بعد عناء العمر يجد نفسه مضطراً للعمل، يشحذ خبرات السنين، ويعمل في التدريب لفئة من الناس تجد الحياة سهلة. في تجاعيد وجهه رأيت ماركيز، الكاتب الكولمبي الشهير، يشبهه في الملامح، لكن ماركيز تحرر من بؤس الحاجة لإرضاء الآخرين، تحرر من البؤس بالتفوق في التعبير عنه. نتجاوز دعاباته الساذجة، ولا نضحك عليها، نظنها سطحية ونحن أكبر منها. قضينا يوماً طويلاً، ولا طاقة لنا في مط الشفتين مجاملة لأحد، المجاملة طاقة لا نمتلكها دائماً؛ أيهما أهم أن تكون لطيفاً، أم أن تكون حقيقياً؟ تساؤل لطالما طرحته، أتفهم مع الزمن أن اللطف أيضاً حقيقة؛ ندخل في صراعات فكرية كثيرة في بداياتنا، غير مدركين أن ما نظنها متناقضات هي في النهاية مجرد استطراد في المعنى للمفردة نفسها. أن تكون لطيفاً، أي أن تراعي الموقف النفسي الذي يقف عليه الآخر، وتتصرف معه بناءً على موقفه النفسي هو، وليس بناءً على موقفك أنت، هذا ما يسمونه «التعاطف» و«التفهم»، وهي حالات متقدمة من التوازن النفسي، لتصل إليها عليك أن تعمد دوماً إلى تنظيف المصفاة الذهنية الموصلة لأعماق نفسك، أي لا تراكم مشاعر سلبية؛ كلما شعرت بضيق، لا تسرع للوصول إلى المحطة التالية قبل أن تعرف لماذا تشعر بالضيق، توقف، تنفس، تأمل، تذكر، متى شعرت هكذا؟ ربما من موقف مر عليك قبل ساعة، تعليق سمعته لم يعجبك، أو نظرة من أحدهم لم ترحك، حاول أن تتذكر لماذا شعرت بعدم الراحة، وحين تصل للموقف المسبب قم بتحليله، من السبب فيه؟ أنت أم طرف آخر، أم طرف ثالث لا علاقة له بكما، كأن تكون «الظروف» أو «القوانين العامة» أو فقط «عدم الانتباه»، حاول أن تحلل السبب، فإن كان منك، ويستوجب اعتذاراً اتصل واعتذر واغفر لنفسك. وإن كان من الآخر أخبره أنك لم ترتح لما قاله أو فعله أو فقط اغفر له، أخرج الشعور الصغير بالضيق من قلبك، ثم ارمه خارجاً، وتأكد قبل أن تتقدم خطوة جديدة أن قلبك صار أخف، المشاعر السلبية تتراكم، وإذا اعتدنا المضي دون التوقف للتأمل في أسبابها والخلاص منها سنفقد القدرة على العودة بالذاكرة إلى الوراء، إذا فقدنا هذه القدرة سيصبح «الضيق» شعوراً عاماً ودائماً لا نعرف له سبباً، لذلك من المهم أن نتعود على معرفة الأسباب الصغيرة للضيق قبل أن تصبح سبباً واحداً كبيراً مجهول المصدر، حين تصير كذلك يصبح موقفنا النفسي ثقيلاً، وغير محدد المعالم، ويصير وجودنا مموّهاً يخفي هالتنا الخاصة، تلك الهالة التي تصحبنا في حلّنا وترحالنا، وتضفي علينا كيميائنا الخاصة التي يحس بها كل من يرانا، نفقدها ونفقد معها القدرة على الإحساس بالموقف النفسي للآخر، فيجتهد أمامنا رجل مسنّ ليحصد رضانا، لكننا نعبر من خلاله دون أن نراه، أو نضحك على دعابته. Mariam_alsaedi@hotmail.com